دوله محترمه .. مواطن محترم

          لان الوهم لايمكن أن يصنع وطن ، فالواهمون مستحيل أن يعبروا عن مشاعر الانتماء  ..  ان الوطن لا يسكن الا في قلب كل غيور مدفوع بقيم الاعتزاز بالانتماء الى التراب الوطني ..

          ان قيم الاعتزاز  بالانتماء للوطن  في أسمى معانيها تعني تحقيق الكرامة الانسانيه والسعاده  من كل فرد لكل فرد والتي في  محصلتها تحقق كرامة المجتمع .. ويمارس هذا الاعتزاز والانتماء سلوكا في الحياة اليوميه للمواطن  وفي علاقته مع غيره من المواطنين ، ومع الآخرين خارج الوطن .. فلا يقبل ظلما ، ولا يصادر حقا ، ولا يخون أمانه ، ولا ينتهك حرمه ، ولا يقيد حريه .. لا يقبل على الآخرين ما لا يقبله على نفسه من الشر أو المعاناة ..

 وبقدر تحقق الشعور بالكرامة الانسانيه  يتطور المجتمع وتصبح مسألة الشعور بالامن والاستقرار من بديهيات الامور  فهي نتيجه الطبيعيه لشعور الانسان فردا وجماعة بأن كرامته مصانة .. فلا تمييز لفرد على آخر ولا استثناءات لجماعة  على أخرى . . وهذه هي الترجمة العمليه لسيادة القانون التي تحقق الاحترام المتبادل للحقوق .. بما في ذلك احترام الاغلبية لحقوق الاقليات .. فعندما يحقق حزب أو تنظيم أو جماعه الاغلبيه التي تؤهله لممارسة الحكم ،  يجب ألا يتحول ذلك الى تحكم بالاقليه ولابد للاغلبية أن تحترم حقوق الاقليات – أيا كانت تلك الاقليات دينيه ، أو عرقيه ، أو سياسيه -… ويندرج ضمن هذا عدم أحقية أي سلطه حاكمه اصدار تشريعات أو قوانين ، أو اتخاذ اجراءات من شأنها الاعتداء على حقوق الاقليات أو الحد من ممارستها لحرياتها سواء الفكريه ، أو السياسيه ، أو الدينيه ، أو الثقافيه ..  اذ أنه بقدر احترام الاغلبيه حقوق الاقليات تكتسب مشروعيتها المعبر عنها في الالتزام بمباديء الممارسه الديمقراطيه ، واخلاقيات التعديه السياسيه والحزبيه .. فالتعدد هنا هو تعدد الافكار ، والديانات ، والاعراف ، والاعراق ، و الرؤى والبرامج التي على اختلافها  لابد أن تتعايش .. هذا التعايش الذي تتنامى معه مشاعر الكرامه الانسانيه ، ويتعزز اعتزاز الجميع بالانتماء الى الوطن الذي يشعر فيه كل فرد أنه محترم أمام النظام ، وبقدر شعوره بهذه المكانه يتولد لديه الاحترام لذلك النظام .. فالنظام الذي لا يحقق الاحترام للمواطن أيا كان انتماءه السياسي وفكره ، ولغته ، وديانته ، وثقافته  بقدر ما  لا يستحق الاحترام من قبل مواطنيه بنفس ذلك القدر ..  وهكذا فالدوله المدنيه الحديثه هي التي تحقق الشعور المتبادل بالاحترام  بين الدوله بكافة سلطاتها التشريعية والتنفيذيه  والقضائيه  من جهه وبين الشعب بكافة فئاته من جهة أخرى .

                               هذا يقودنا الى التفكير في نظرية الاحترام المتبادل بين السلطه والمواطن .. والى اكتشاف نوع جديد من الدول  يمكن أن نطلق عليها ( الدول المحترمه)..

الدوله المحترمه.. تنشأ من حقيقة التعبير التلقائي  عن الاحترام  المتبادل بين السلطه والمواطن .. فالمواطن يحترم القوانين والانظمة التي تسنها الدوله ، مقابل أن الدوله تحترم خيارات المواطن في الانتماء الحزبي ، والحريه الفكريه ، وحرية اختيار العمل ، حرية اختيار التخصص في التعليم ، حق المواطنه المتساويه ، حق التنقل …  وغيرها من الحقوق المشروعه في الدوله المدنيه العصريه ..

     الدوله المحترمه لا تفرض  هيبتها ، أو سلطتها بقوة  السلاح ، أو الترهيب ، أو التضليل ، أو الاغلبية التي يحرزها حزب أو طائفه أو جماعه فتؤهلها للحكم .. ولكن تفرض هيبتها من احترام المواطن لها .. وجوهر الدولة المحترمه في أن الدوله وقياداتها وقيادات الحكومه لابد أن تقدم القدوه في السلوك القويم الذي يحوز احترام المواطن لها .. كما أنها تقوم على اعلاء قيم الاحترام المتبادل فيما بين أعضاء الحكومه ، والعاملين في كل وزارة أو وحده من وحدات جهازها الاداري ، وكذا الاحترام بين السلطات المختلفه للدوله وبعضها البعض ..   ويندرج ضمن الاحترام الالتزام بالاختصاص من قبل كل سلطه ، فلا تتدخل في اختصاصات السلطه الاخرى .. هذا الالتزام وان كان يندرج ضمن التقيد باللوائح والقوانين في  الدوله المحترمه كما هو الحال في الدوله المدنيه المؤسسيه ..  الا أنه في الدوله المحترمه لا يقوم على الالتزام القانوني بقدر ما يعبرعن افتراض الالتزام المسبق والتلقائي بالقوانين والانظمه من الجميع ، ومن ثم تحول هذا الالتزام الى طور أرقى مع تحول طابع علاقة الالتزام المتبادل الى طابع الاحترام  المتبادل ..  فالدوله المحترمه لا تفترض فقط الالتزام بالقوانين والانظمه ، لكنها تصل الى افتراض وعي السلطه ، الحكومه ، المجتمع ، والافراد بالقوانين والانظمه بفعل التطور الذي تحقق للبشريه  في مفهوم الدوله ، وفلسفة النظام .. ومع الثورة التي تحققت في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصال .. فقد تداخلت المفاهيم الى درجة أن الكثير من تلك المفاهيم وصل الى درجة المفهوم الواحد ، أو وحدة المفهوم ازاء القيم والتقاليد التي تحكم علاقات المنظومة السياسيه ، والاجتماعيه ، والثقافيه ، والدينيه  في المجتمعات ، والشعوب المختلفه .. فمع التسليم ببقاء عوامل الاختلاف بدرجات متفاوته بين الشعوب من حيث انتماءاتها العرقيه ، والدينيه ، ودرجات تطورها ، وتوجهها نحو بناء الدول المدنيه ، وبصرف النظر عن كون هذه النظم ملكيه أو جمهوريه ، أو سلطنات ، أو مشيخات .. الا أن المفاهيم التي أخذت في الانتشار على نحو واسع ، واصبحت محل تطلع لجميع الشعوب في المعموره هي الاتجاه نحو تحرير الانسان ، واحترام حقوقه السياسيه ، والمساواه في المواطنه ، وتمكين المرأه …. ان موجة  التغيير ، وعمليات الاصلاحات التي لا يوجد أي شعب في المعمور ه  الا  ويمر بها أو بأحد مراحلها تجعل من الصعب التفريق بين طموحات الشعوب .. فالشعوب على اختلاف مستوياتها الاقتصاديه  يجمعها  احساسا مشتركا يرقى الى درجة  الاصرار على أن تعيش بكرامه ، وأن يتمتع كل شعب ، وكل انسان   بخيارات واسعه  في أن يعيش حياة كريمه  وفقا للقيم والمعتقدات التي يؤمن بها .. باختصار شديد فان القاعده الاساسيه التي أصبح كل انسان في أي مكان يتطلع اليها هو أن يتمتع بالاحترام ، وأن يشعر بهذا الاحترام من قبل السلطه التي تحكمه ، فلا تمارس عليه التجهيل والاستغفال لان لديه مصادر معلومات متعدده توفرها له فضاءات الاعلام ، ووسائل الاتصال ، وشبكة الانترنت ، فهو يتشارك تلك المعلومات ويتبادلها مع غيره على مستوى العالم .. وما يدفع كثير من الشعوب الى الثوره ، والتمرد ، هو شعورهم بالكبت ، وشعورهم بأن هناك من يتعامل معهم من موقع التعالي بحكم وجوده في السلطه فلا يحترم ما وصلت اليه تلك الشعوب من مستويات متقدمه من الوعي لا تختلف عما وصلت اليه الشعوب في العالم المتقدم ..

     اذن العلاقه القائمه على الاحترام .. ويشمل الاحترام في معانيه الثقه ، والثقه المتبادله بوعي المواطن وارادته في الالتزام بتنفيذ النظم والقوانين ، يقابله ثقة المواطن في الدوله  وفي أنها مؤهلة فعلا لتحقيق الامن والنظام ، والقيام فعلا بتنفيذ سيادة القانون ، وفي الوقت نفسه يجب أن تمتد هذه الثقه لتشمل ثقة المجتمع في قدراته وامكانياته في تحقيق أهداف خططه التنمويه واستراتيجيات المستقبل، ان الثقه بمعناها الواسع الذي يوفرها وضع الدوله المحترمه هو الذي يزرع الامل الواسع في قدرة كل فرد على النهوض بالحاضر وتحقيق أهدافه وطموحاته المنشوده مستقبلا .. وبذلك فعلاقة الاحترام القائمه على الثقه ، والتي تبني الآمال الواسعه في مستقبل أفضل ، تلك الآمال التي تستند الى مقومات ومعطيات وامكانات المجتمع الماديه والبشريه وليس على تسويق الاوهام  هي العلاقة الاكثر رقيا ، على عكس علاقات الالتزام بالقوانين والنظم ، التي قد تقوم على الاجبار ، والهيمنه .. أما علاقة الاحترام فتنبع من ادراك كل من المواطن والسلطه سواء معا أو كل على حده .. من أن توصلهم الى تحقيق أهدافهم في حياة سعيده ، وكريمه  لا يتحقق الا باحترام الاخر ، بمعنى آخر أن الاحترام  هو ركنا الحق والواجب في آن واحد .. وطالما يتساوى حق التمتع بحياة كريمه يساوي الحياة نفسها ، بمعنى آخر عيش حياة كريمه أو الموت هو مطلب الانسان في العالم المعاصر .. من هنا يصبح تحقيق هدف الحياة الكريمه يساوي احترام حق الآخر في أن يعيش نفس الحياة .. وبالتالي تحقيق حالة الاحترام المتبادل الذي يحقق حالة التوازن والاستقرار في الدوله المحترمه …

    المسأله ليست مثاليه كما قد يتبادر لذهن البعض لكنها حتميه ، وواقعيه .. فمثلما أن الانسان الذي لا يحترم نفسه لا يستحق احترام الآخرين له .. كذلك الدوله التي لا تحترم نفسها لا تستحق احترام مواطنيها ،، ولكي تكون محترمه أمام مواطنيها يجب أن تتبع معايير الشفافيه والحكم الرشيد ، والمساءله .. وأن يتمتع قياداتها بقدر كبير من النزاهه ، تحقق لهم مكانة القدوه التي بموجبها تنتزع احترام الآخرين لها ، والذي يترجمه الالتزام بالنظام ، وأداء الواجبات ، هذا الالتزام الذي قد يبدو طوعيا في الدولة المحترمه  هو الالتزام الذي يضاهي أي درجه من الالتزام في الدوله المستبده ، أو الديكتاتوريه .. أو الدوله التي تتبع نظاما بوليسيا متخلفا في فرض هيبتها وتطبيق أنظمتها ..

   اذن لم يعد هناك مجال لفرض هيبة الدوله بالتهديد والوعيد ، أو بقوة السلاح .. ويمكن أن يشبه ذلك بأسلوب التربيه القديم الذي يتبعه الاباء التقليديين الاميين في تربية أبنائهم باستخدام العصا.. والتخويف .. فهذا الاسلوب بقدر ما أصبح أسلوبا متخلفا أثبتت النظريات العلميه الحديثه عدم جدواه .. كذلك الحال في أسلوب  تنظيم علاقة الدوله بالمواطن .. فلم تعد نظرية الاراده السياسيه ، ولا نظرية العقد الاجتماعي ، وكذلك نظرية القوه ..ونظرية السياده .. كلها لم تعد كافيه لتفسير مبررات  نشأة الدوله .. لان التطور الذي أحرزه العالم في ميدان تكنولوجيا المعلومات ، والاتصال ، وانعكاسات ذلك على التطور في تبادل التجارب والمعلومات ، وتزايد  مستويات الايمان بقيم المجتمع المدني ، وتطور دور مؤسسات المجتمع المدني وشراكتها مع الحكومات …  كل ذلك مع ما حققه من تزايد الايمان بحقوق  الانسان في التعبير وفي المعارضه ، والاحتجاج ، وبالوسائل السلميه ، .  . ان ذلك كله وما تولد عنه من تطور في وعي الانسان نفسه .. وتراكم تجربة الدول والحكومات قد أدى الى تراجع قناعات  استخدام وسائل العنف في قمع الاحتجاجات أو فرض هيبة النظام  وكان ذلك التراجع لصالح تنامي الاخذ بخيارات تبادل الافكار والحوار .. والذي يمكن أن نترجمه في أن المتغيرات العالميه والتطور في وعي الانسان لا يعني سوى شيئا واحدا وهو أن العالم المعاصر قد تجاوز تلك النظريات التقليديه في نشأة ووظائف الدوله ، بما في ذلك نظرية السياده التي تحولت في ظل واقع العولمه وثورة الاتصالات الى مجرد تاريخ – مع  تحول العالم الى قريه –  .. لقد صار من الطبيعي بل من المنطقي البحث في شكل جديد للمنظومة السياسيه ، وظائف الدوله وعلاقات مكوناتها ببعضها ، وعلاقتها بالفرد والمجتمع .. ان الاتجاه نحو الاخذ بنظرية الدولة المحترمه .. أو نظرية الاحترام المتبادل في تبرير  نشأة الدوله هو الاتجاه الاكثر تعبيرا واستيعابا لتطورات العصر  ..   وعلى هذا الاساس ( فكرة الاحترام ) يجب اعادة النظر في النظم والقوانين والاجراءات التي تنظم علاقات الدوله فيما بينها كسلطات ، ومؤسسات ،وموظفين  .. وبين المجتمع  كأحزاب ، وجماعات ، وفئات وأفراد .. وان تحقيق  أعلى قدر من التوازن بين الحقوق والواجبات ، أو بين الحقوق والالتزامات هو الذي يوصلنا الى تحقيق أعلى قدر من الاحترام بين جميع مكونات الدوله والمجتمع .. والذي يمكن أن يوصلنا في درجاتها القصوى الى تحويل تلك العلاقه الى عمليه آليه ديناميكيه  تتسم بالميكانيكيه والانتظام ،  من السهل عند وجود أي نوع من الاحتجاجات ، أو المعارضه اكتشاف الخلل ، وتصحيح الاختلالات والعوده بمنظومة العلاقات الى التوازن المطلوب ..  ان جوهرعلاقة الاحترام تعني فيما تعنيه أيضا الشعور بالعداله ، والانصاف ، وتكافؤ الفرص .. بمعنى أكثر وضوح ارساء قيم الحريه والمساواة هي المفتاح السحري لتحقيق سيادة القانون والنظام ، وتحقق الحريه والمساواه هو الوضع الحقيقي الذي يستحق احترام الجميع للجميع ، والاحترام من الجميع للجميع أفرادا ومؤسسات ..

  كذلك فان التطور في مفهوم نشأة الدوله ووظائفها عبر العصور وصولا الى الدولة المحترمه يلتقي مع مباديء العلاقات الدوليه التي تقوم على قاعدة الاحترام المتبادل ، والتعامل بالمثل ، عدم التدخل في الشئون الداخليه .. ان هذه المباديء هي الاخرى تكشف عن مدى التوازن والتوافقيه التي يحققها الاخذ بنظرية الاحترام المتبادل وانسجامها مع العلاقات بين مكونات النظام الدولي بشكل عام الذي لابد أن تتجه هي الاخرى الى المزيد من تنمية مستويات الاحترام لحقوق الشعوب والدول في العيش بسلام ، وفي التمتع بخيارات بما يحقق لها الكرامه ، وعدم هيمنة الدول الكبرى ، وتدخلها في شئونها الداخليه .. ان ذلك هو الآخر وفقا لنظرية الاحترام المتبادل – أي دوله  لكي تستحق أن يتم التعامل معها باحترام من المجتمع ، والمنظومه الدوليه يجب أن تحقق قدرا معينا ، معقولا ، ومقنعا للمجتمع الدولي في  سيادة علاقات الاحترام فيما بينها وبين مواطنيها ، من خلال اتباع معايير الحكم الرشيد ، والشفافيه ، والمسائله ، احترام حقوق الانسان .. الديمقراطيه بشكل عام ، واحترام حقوق الاقليات ..

نُشر بواسطة Younes Hazza'a يونـس هــزاع

ناشط سياسي يمني ، صحفي واعلامي بارز ، عمل رئيسا للدائرة السياسية للمؤتمر الشعبي العام ، وكيلا مساعدا لوزارة الاعلام في الجمهورية اليمنية .

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

%d مدونون معجبون بهذه: